فصل: ذكر أحداث سنة إحدى عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فمنهم زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد، وثوبان، ويكنى أبا عبد الله، أصله من السراة، وسكن حمص بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، ومات سنة سبع وخمسين، وقيل: سكن الرملة، ولا عقب له.
وشقران، وكان من الحبشة، وقيل من الفرس، واسمه صالح بن عيد، واختلف في أمره، فقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورثه من أبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأعقب.
وأبو رافع، واسمه إبراهيم، وقيلأو يقع، فقيل: كان للعباس فوهبه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان لأبي أحيحة سعيد بن العاص فأعتق ثلاثةٌ من بنيه أنصباءهم منه، وشهد معهم بدراً وهم كفار، وقتلوا يومئذٍ، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وابنه البهي، واسمه رافع، وأخوه عبيد اله بن أبي رافع، كان يكتب لعلي بن أبي طالب.
وسلمان الفارسي، وكنيته أبو عبد الله، من أهل أصبهان، وقيل: من أهل رامهرمز، أصابه سبياً بعض من كلب وبيع من يهودي بوادي القرى، فكاتب اليهودي وأعانه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى عتق.
وسفينة، كان لأم سلمة، فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حياته. قيل: اسمه مهران، وقيل: رباح، وقيل: كان من عجم الفرس.
وأنسة يكنى أبا مسروح، وهو من مولدي السراة، وكان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدراً وأحداً والمشاهد كلها، وقيل: كان من الفرس.
وأبو كبشة، واسمه سليم، قيل: كان من موالي مكة، وقيل: كان من مولدي أرض دوس، اشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وتوفي يوم استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة.
ورويقع أبو مويهبة، كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعتقه.
ورباح الأسود، كان يأذن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفضالة نزل الشام.
ومدعم قتل بوادي القرى.
وأبو ضميرة، قيل: كان من الفرس من ولد بشتاسب الملك، فأصابه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بعض وقائعه فأعتقه، وهو جد أبي حسين.
ويسار وكان نوبياً، أصابه في بعض غزواته فأعتقه، وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومهران مولاه، حدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
وكان له خصي يقال له مابوز، أهداه له المقوقس مع مارية وشيرين، قيل: إنه الذي قذفت مارية به، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً ليقتله، فرآه خصياً فتركه. وخرج إليه من الطائف وهو محاصرهم أربعة أعبد فأعتقهم، منهم أبو بكرة.

.ذكر من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً وعلي بن أبي طالب أحياناً، وخالد بن سعيد، وأبا بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي. وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ورجع إلى الإسلام يوم الفتح. وكتب له معاوية بن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي بضم الهمزة، وتشديد الياء، كذلك يقوله المحدثون، وهو منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم، بالتشديد إجماعاً.

.ذكر أسماء خيله صلى الله عليه وسلم:

قيل: أول فرس ملكه، صلى الله عليه وسلم، فرس اشتراه بالمدينة من أعرابي من فزارة بعشر أواق، وسماه السكب، وأول غزوة غزاها عليه أحد. وفرس لأبي بردة بن نيار اسمه ملاوح. وكان له فرس يدعى المرتجز، وهو الفرس الذي شهد به خزيمة بن ثابت، وكان صاحبه من بني مرة. وكان له ثلاثة أفراس: لزاز والظرب واللحيف، وأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي. وكان له فرس يقال له الورد، أهداه له تميم الداري، فوهبه النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب، فحمل عليه في سبيل الله فوجده يباع. وقيل: كان له فرس اسمه اليعسوب.
تفسير هذه الأسماء: السكب الكثير الجري، كأنما يصب جريه صباً. واللحيف سمي به لطول ذنبه كأنه يلحف الأرض بذنبه. أي يغطيها. ولزاز سمي به لشدة تلززه. والظرب سمي به لشدة خلقه، سمي بالجبل الصغير. والمرتجز سمي به لحسن صهيله. واليعسوب سمي به لأنه أجود خيله، لأن اليعسوب الرئيس.

.ذكر بغاله وحميره وإبله صلى الله عليه وسلم:

كانت له دلدل، وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، أهداها له المقوقس ومعها حمار اسمه عفير، وبقيت البلغة إلى زمن معاوية، وأهدى له فروة بن عمرة بغلة يقال لها فضة، فوهبها لأبي بكر، وحماره يعفور بقي بعد منصرفه من حجة الوداع.
وأما إبله فكانت له القصوى، وهي التي أخذها من أبي بكر بأربعمائة درهم وهاجر عليها، وكانت من نعم بني الحريش، وبقيت مدة، وهي العضباء والجدعاء أيضاً. قال ابن المسيب: كان في طرف أذنها جدع، وقيل: لم يكن بها جدع.
وأما لقاحه فكان له عشرون لقحة بالغابة، وهي التي أغار عليها القوم، يأتي لبنها أهله كل ليلة، وكان له لقاح غزار، منهن: الحناء والسمراء والعريس والسعدية والبغوم واليسيرة والريا ومهرة والشقراء.
وأما منائحه، فكانت له سبع منائح من الغنم: عجوة وزمزم وسقيا وبركة وورسة وأطلال وأطراف، وسبع أعنز يرعاهن أيمن بن أم أيمن.
تفسير هذه الأسماء: عفير تصغير ترخيم الأعفر، وهو الأبيض بياضاً غير خالص، ومنه أيضاً اسم حماره يعفور، كأخضر ويخضور. البغام صوت الإبل، ومنه البغوم. والباقي لا يحتاج إلى شرح.

.ذكر أسماء سلاحه صلى الله عليه وسلم:

كان له ذو الفقار، غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج، وقيل لغيره، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفاً قلعياً وسيفاً يدعى بتاراً وسيفاً يدع الحتف، وكان له المخذم ورسوب، وقدم معه المدينة سيفان شهد بأحدهما بدراً يسمى العضب. وكان له ثلاثة أرماح وثلاث قسي، قوس اسمها الروحاء وقوس تدعى البيضاء، وقوس نبع تدعى الصفراء، وكان له درع يقال لها الصعدية، وكان له درع يقال لها فضة، غنمها من بني قينقاع، وكان له درع تسمى ذات الفضول، كانت عليه يوم أحد، يه وفضة. وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكرهه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.
تفسير هذه الأسماء: سمي السيف ذو الفقار لحفر فيهز والسيف المخذم القاطع. والرسوب الذي يمضي في الضربة ويثبت فيها.

.ذكر أحداث سنة إحدى عشرة:

في المحرم من هذه السنة ضرب النبي، صلى الله عليه وسلم، بعثاً إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلاماً على جلة المهاجرين والأنصار. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها» وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، منهم: أبو بكر وعمر، فبينما الناس على ذلك ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه.

.ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته:

ابتدىء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه أواخر صفر في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة، فجمع نساءه فاستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة، ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد، وعسكر بسميراء، وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة، فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، عاصباً رأساً من الصداع فقال: إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء. وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال: «لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وخرج أسامة فضرب بالجرف العسكر وتمهل الناس، وثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يشغله شدة مرضه على إنفاذ أمر الله، فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل وفاته بيوم، فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عنهم من المرتدين.
وقال أبو مويهبة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أيقظني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة وقال: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي فانطلقت معه فسلم عليهم ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه، قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. ثم قال: قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدىء بمرضه الذي قبض فيه.
قالت عائشة: فلما رجع من البقيع وجدتي وأنا أجد صداعاً وأنا أقول: وارأساه! قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: ما ضرك لو مت قبل فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقلت: كأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك. فتبسم وتتام به وجعه وتمرض في بيتي.
فخرج منه يوماً بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس والآخر علي، قال الفضل: فأخرجته حتى جلس على المنبر فحمد الله، وكان أول ما تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم، أن صلى على أصحاب أحد فأكثر واستغفر لهم، ثم قال: أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى. فادعى عليه رجلٌ بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها. ثم قال: أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا بيقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أحداً أفضل في الصحبة عندي منه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
قال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر. فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: مرحباً بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظم الله، رفعكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه، إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} القصص: صلى الله عليه وسلم. قلنا: فمتى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى. فقلنا: من يغسلك؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: فيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض. قلنا: فمن يصلي عليك؟ قال: مهلاً، غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيراً. فبكينا وبكى، ثم قال: إذا غسلمتوني وكفتنتموني فضعوني على سريري على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعةً ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا علي فوجاً فوجاً فصلوا علي ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، أقرئوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحاب فاقرئوه مني السلام، وما تابعكم على ديني فاقرئوه السلام.
قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس- ثم جرت دموعه على خديه- اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضه ووجعه، فقال: إيتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً. فتنازعوا- ولا ينبغي عند نبي تنازع- فقالوا: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يهجر. فجعلوا يعيدون عليه، فقال: دعوني فما أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه. فأوصى بثلاث: أن يخرج المشركون من جزيرة العرب، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: نسيتها.
وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مرضه. فقال الناس: كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده العباس فقال: أنت بعد ثلاث عبد العصا، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيتوفى في مرضه هذا، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فاذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا أمره أوصى بنا. فقال علي: لئن سألناها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبداً.
قال: فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: قالت أسماء بنت عميس: ما وجعه إلا ذات الجنب، فلو لددتموه، ففعلوا. فلما أفاق قال: لم فعلتم هذا؟ قالوا: ظننا أن بك ذات الجنب: قال: لم يكن الله ليسلطها علي. ثم قال: لا تبقن أحداً لددتموه إلا عمي، وكان العباس حاضراً، ففعلوا.
قال أسامة: لما ثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد صمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فعلمت أنه يدعو لي.
قالت عائشة: وكنت أسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول كثيراً: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره. قالت: فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى. قالت: قلت: إذاً والله لا يختارنا، وعلمت أنه تخير.
ولما اشتد مرضه أذنه بلال بالصلاة فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس. قالت عائشة: فقلت: إنه رجل رقيق وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك. فقال: مروا أبا بكر فيصلي بالناس. فقلت مثل ذلك، فغضب، وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس. فتقدم أبو بكر، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خفة فخرج بين رجلين، فلما دنا من أبي بكر، تأخر أبو بكر، فأشار إليه أن قم مقامك، فقعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي إلى جنب أبي بكر جالساً، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة، وقيل: ثلاثة أيام. ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح، فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحاً برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرحاً لما رأى من هيئتهم في الصلاة، ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أفاق من وجعه، ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح. قالت عائشة: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت. قال: ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك، فنظر إليه نظراً عرفت أنه يريده، فأخذت فلينته ثم ناولته إياه، فاستن به ثم وضعه، ثم ثفل في حجري، قالت: فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى، فقبض، قالت: توفي وهو بين سحري ونحري، وحداثة سني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض في حجري، فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.
ولما اشتد برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعه ونزل به الموت جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ويقول: واكرباه! فتقول فاطمة: واكربي لكربك يا أبتي! فيقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لا كرب على أبيك بعد اليوم، فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها، فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، فلما توفي رسول الله سألتها عائشة عن ذلك، قالت: أخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به، فضحكت. وروي عنها أنها قالت: ثم سارني الثاني وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة، فضحكت.
وكان موته يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار، وقيل: مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول.
ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح، وعمر حاضر، فلما توفي قام عمر فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران، والله ليرجعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس، فدخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىًّ في ناحية البيت فكشف عن وجهه ثم قبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها. ثم رد الثوب على وجهه ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فأمره بالسكوت فأبى، فأقبل أبو بكر على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} آل عمران: النبي، صلى الله عليه وسلم،. قال: فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه. قال عمر: فوالله ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وقد علمت أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد مات.
ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم، فاجتمعوا إليه، فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقد ررأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: قولوا معي لا إله إلا الله تدن لكم العرب وتؤد إليكم العجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، فمن بين مستهزىء ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي. فامتنع الناس من الردة. وهذا المقام الذي قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب، وقد ذكر هناك.

.حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه:

لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيبب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أبو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً. قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي. فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقيل: لما سمع علي بيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.
والصحيح: أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم.
وقيل: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: إني لأرى عجاجةً لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعكم، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى علي، رضي الله عنه، فتمثل بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خسفٍ يراد به ** إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته ** وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي وقال: والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً! لا حاجة لنا في نصيحتك.
وقال ابن عباس: كنت أقرىء عبد الرحمن بن عوف القرآن فحج وحججنا معه، فقال لي عبد الرحمن: شهدت أمير المؤمنين اليوم بمنىً، وقال له رجل: سمعت فلاناً يقول: لو مات عمر لبايعت فلاناً، فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وهم الذين يغلبون على مجلسك، وأخاف أن تقول مقالةً لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتقول ما قلت فيعوا مقاتلك. فقال: والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة.
قال: فلما قدمت المدينة هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن، فلما جلس عمر على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم وما نسخ من القرآن فيه: إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرن أمراً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فتنة، فقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان خيرنا حين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن علياً والزبير ومن تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار، أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي، فقالا لنا: ارجعوا أقضوا أمركم بينكم. قال: فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر. فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فقام فحمد الله وما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال: يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وإني والله ما كرهت من كلامه كلمة غيرها، إن كنت أقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر.
فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. وارتفعت الأصوات واللغط، فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك؛ فبسط يده فبايعه وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعداً. فقلت: قتل الله سعداً، وإنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من بيعة أبي بكر، خشيت إن فارقت القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى به، وإما أن نخالفهم فيكون فساداً.
وقال أبو عمرة الأنصاري: لما قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر، وكان مريضاً، فقال بعد أن حمد الله: يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب، إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً وأعطى البعيد المقادة صاغراً فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دونهم.
فأجابوا بأجمعهم: أن قد وفقت وأصبت الرأي ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنعٌ ورضاً للمؤمنين. ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: وإن أبى المهاجرون من قريش وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبداً. فقال سعد: هذا أول الوهن.
وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إلي. فأرسل إليه. إني مشتغل. فقال عمر: قد حدث أمر لابد لك من حضوره. فخرج إليه فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة. قال عمر: فأتيناهم وقد كنت زورت كلاماً أقوله لهم، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر وتكلم بكل ما أردت أن أقول، فحمد الله وقال: إن الله قد بعث فينا رسولاً إلى خلقه شهيداً على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهةً شتى من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم. فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالفٌ زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لا ينازعهم إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور.
فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته! فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعةً.
فقال عمر: إذاً ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فيما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فإن شئتم فبايعوا. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة، وهي أفضل دين المسلمين، ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: عققت عقاقاً ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمك الإمارة؟ فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير، وكان نقيباً: والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب.
ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه.
وجاءت أسلم فبايعت، فقوي أبو بكر بهم، وبايع الناس بعد.
قيل إن عمرو بن حريث قال لسعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة، رضي الله عنها، فبايعوه.
فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة، ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ من الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
أسيد بن حضير بضم الهمزة، وبالحاء المهملة المضمومة، وبالضاد المعجمة، وآخره راء.